قراءة أبوعمرو ( الدّوري و السّوسي )

 


الإمام الثالث أبو عمرو بن العلاء البصري

(68 - 154هـ)

وأما الإمام المازنيُّ صريحَهُم           أبو عَمرو والبصري فوالدُهُ العلا
أفاض على يحيى اليزيدي سيبه            فأصبح بالعذبِ الفُرات معللا
أبو عُمَرَ الدوري وصالحهم أبو            شُعيبٍ هو السوسيُّ عنه تقبَّلا
المازني : نسبة لبني مازن .
والصريح : الخالص النسب .
والسبب : العطاء ، والمراد به هنا العلم .
والفرات : العذب ، وجمع بينهم للتأكيد .
والمعلل : الذي يسقي مرة بعد أخرى .

 اسمه ونسبته وكنيته ومولده


زبَّان بن العلاء بن عمَّار بن العُريان، وقيل: العُريان بن العلاء بن عمار، التميميُّ، ثم المازِنيُّ، أبو عمرو البصري، أمه من بني حَنِيْفَة، ومولده سنة (68هـ) أو (70هـ) بمكة، وقد نشأ بالبصرة، ومات بالكوفة أيام المنصور.

 

 صفاته


اشتُهر بالفصاحة، والصدق، والثقة، وسعة العلم، والزهد، والعبادة، وكان من أشراف العرب، مدحه الفرزدقُ وغيرُه، وورد أنَّه كان يختم القرآن في كلِّ ثلاث.

 

 مكانته وعلمه


أحد القُرَّاء السبعة، وشيخُ القراءة والعربية، أوحد أهل زمانه، برز في الحروف، وفي النَّحو، وتصدَّر للإفادة مُدَّة، كان من أعلم النَّاس بالقراءات والعربية، والشعر، وأيام العرب، وكانت دفاتره ملءَ بيت إلى السقف، ثم تنسَّكَ فأحرقها، وقد انتهت إليه الإمامة في القراءة بالبصرة، وانتصب للإقراء أيامَ الحسن البصري، وهو من التابعين.

 

قال الأخفش: مَرَّ الحسن البصري بأبي عمرو بن العلاء وحلقته متوافرة، والنَّاس عكوف، فقال: من هذا؟ قالوا: أبو عمرو، فقال: لا إله إلا الله، كادتِ العلماء تكون أرباباً.

 

قال إبراهيم الحربي وغيره: كان أبو عمرو من أهل السُنَّة.

 

وقال الأصمعيُّ: سمعت أبا عمرو يقول: ما رأيتُ أحداً قبلي أعلم مني، وقال الأصمعي: أنا لم أرَ بعد أبي عمرو أعلم منه.

 

وروى أبو العيناء، عن الأصمعي: قال لي أبو عمرو بن العلاء: لو تهيَّأ أن أفرغ ما في صدري من العلم في صدرك لفعلتُ، ولقد حفظتُ في علم القرآن أشياء لو كُتِبَتْ ما قَدََر الأعمش على حملها، ولولا أنْ ليس لي أنْ أقرأَ إلاَّ بما قُرِئَ لقرأتُ حرفَ كذا، وذكر حروفاً.

 

وقال نصر بن علي الجهضمي: قال أبي: قال لي شعبة: انظر ما يقرأ أبو عمرو وما يختار لنفسه فاكتبه، فإنه سيصير للناس أستاذاً.

 

وقال يحيى اليزيديُّ: كان أبو عمرو قد عرف القراءات، فقرأ من كلِّ قراءة بأحسنها، وبما يختار العرب، وبما بلغه من لغة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وجاء تصديقه في كتاب الله عزَّ وجلَّ.

 

وكان اختياره في قراءته التخفيف والتسهيل ما وجد إليه سبيلاً، وقد أطبق الناس على قراءته، وكانوا يشبهونها بقراءة ابن مسعود، وكان بعضهم يوصي بعضاً بقراءته.

 

وقد انتشرت قراءةُ أبي عمرو البصري في فترة من الفترات خارج حدود البصرة، فهذا ابن الجزري يحكي حالَ زمانه، فيقول: فالقراءة التي عليها النَّاس اليوم بالشام والحجاز واليمن ومصر هي قراءة أبي عمرو، فلا تكاد تجد أحداً يُلَقَّنُ القرآن إلاَّ على حرفه، خاصَّة في الفرش، وقد يخطئون في الأصول، ولقد كانت الشام تقرأ بحرف ابن عامر إلى حدود الخمسمائة، فتركوا ذلك لأنَّ شخصاً قَدِمَ من أهل العراق، وكان يُلَقِّن النَّاس بالجامع الأموي على قراءة أبي عمرو، فاجتمع عليه خلق واشتهرت هذه القراءة عنه.

 

قلت: وقد اختلف الحال في زماننا، فأصبحت رواية حفص عن عاصم هي الأكثر انتشاراً في العالم كله، ولهذه أسبابه وأسراره.

 

 شيوخه في القراءة


أخذ أبو عمرو بن العلاء القراءة عن أهل الحجاز، وأهل البصرة، وأهل الكوفة، وليس في القُرَّاء السبعة أكثر شيوخاً منه.

 

فقرأ القرآن بمكة على: سعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وعكرمة بن خالد مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن كثير، وورد أنَّه تلا على أبي العالية الحسن بن مهران الرِّياحي.

 

وقرأ في المدينة على: أبي جعفر يزيد بن القعقاع، ويزيد بن رومان، وشيبة بن نِصَاح.

 

وقرأ بالبصرة على: يحيى بن يَعْمُر، ونصر بن عاصم، والحسن البصري، وغيرهم.

 

وقرأ بالكوفة على: عاصم بن أبي النَّجود.

 

قال يحيى اليزيدي: سمعتُ أبا عمرو يقول: سمع سعيد بن جبير قراءتي، فقال: الزم قراءتك هذه.

 

قَال أبو بكر بن مجاهد: كان أبو عَمْرو مُقَدَّمًا في عصره، عالمًا بالقراءة ووجوهها، قدوةً في العلم باللغة، إمامَ النَّاس في العربية، وكان مع علمه باللغة وفقهه في العربية متمسِّكًا بالآثار، لا يكاد يخالف في اختياره ما جاء عن الأئمة قبله، متواضعًا في علمه، قرأ على أهل الحجاز، وسلك في القراءة طريقهم، ولم تزل العلماء في زمانه تعرف له تقدُّمَه وتُقِرُّ له بفضله، وتأتمُّ في القراءة بمذهبه، وكان حسن الاختيار، سهل القراءة، غير متكلِّف، يُؤثر التَّخفيف ما وجد إليه السبيل.

 

رواة القراءة عنه


قرأ عليه خلق كثير، منهم: عبد الله بن المبارك، عبد الملك بن قريب الأصمعي، ويحيى بن المبارك اليزيدي، والعباس بن الفضل، وعبد الوارث بن سعيد التَّنُّوري، وشُجاع البَلخي، وحسين الجعفي، ومعاذ بن معاذ، ويونس بن حبيب النَّحوي، وسهل بن يوسف، وأبو زيد الانصاري سعيد بن أوس، وسلام الطويل، وسيبويه، وآخرون.




 

 منزلته في الرواية والحديث


حدَّث أبو عمرو باليسير عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وعن إياس بن جعفر البَصْرِيّ، ويحيى بن يعمر، وبديل بن ميسرة العقيلي، وجعفر بن محمد الصادق، ومجاهد بن جبر، وأبي صالح السمَّان، وأبي رجاء العطاردي، ونافع العمري، وعطاء بن أبي رباح، وابن شهاب الزهري، والحسن البَصْرِيّ، وآخرين.

 

قال عنه يحيى بن معين: ثقة.

 

وقال أبو حاتم: ليس به بأس.

 

وقال أبو عمرو الشيباني: ما رأيت مثل أبي عمرو.

 

روى له أبو داود في القدر، وابن ماجه في التفسير.

 

من مآثره وأقواله


قال الأصمعي: قال لي أبو عمرو: كن على حذر من الكريم إذا أهنته، ومن اللئيم إذا أكرمته، ومن العاقل إذا أحرجته، ومن الأحمق إذا مازحته، ومن الفاجر إذا عاشرته، وليس من الأدب أن تجيب من لا يسألك، أو تسأل من لا يجيبك، أو تحدِّث من لا ينصت لك.

 

وقيل لأبي عمرو: حتى متى يحسن بالمرء أن يتعلم؟ قال: ما دامتِ الحياة تَحْسُن به.

 

وكان أبو عمرو إذا دخل شهر رمضان لم ينشد بيت شعر حتى ينقضي.

 

وكان يقول للأصمعي: يا بني، إن طفئت شحمة عيني هذه لم ترَ من يشفيك من هذا البيت أو هذا الحرف.

 

وقال الأصمعي: كان لأبي عمرو كلَّ يوم يشتري كُوْزَاً ورَيْحَاناً بفلسين، فإذا أمسى: تصدَّق بالكوز، وقال للجارية: جففي الرَّيحان ودقِّيْه في الأشنان.

 

قال عبد الوارث: حججتُ سنَةً من السنين مع أبي عمرو بن العلاء وكان رفيقي، فمررنا ببعض المنازل، فقال: قم بنا فمشيتُ معه، فأقعدني عند ميل، وقال لي: لا تبرح حتى أجيك، وكان منزل قَفْرٌ لا ماء فيه، فاحتبس عليَّ ساعةً، فاغتممتُ فقمتُ أقفيه الأثر، فإذا هو في مكان لا ماء فيه، فإذا عينٌ وهو يتوضأ للصَّلاة، فنظر إليّ، فقال: يا عبد الوارث أكتم عليَّ ولا تُحدِّث بما رأيتَ أحداً، فقلتُ: نعم يا سيِّد القرَّاء، قال عبدُ الوارث: فو الله ما حدثتُ به أحداً حتى مات.

 

ولما طلب الحَجَّاج بن يوسف الثقفي أباه العلاء، خرج العلاء هارباً ومعه ولده أبو عمرو، وهما يُرِيدان اليمن، قال أبو عمرو: فإنا لنسير في صحراء اليمن إذا رجل ينشد:

صبِّر النَّفس عند كلِّ مُلمّ 
إنَّ في الصبر حِيلة المُحتَال 
لا تضيقنَّ في الأمور فقد يُكْ 
شَف لأواؤها بغير احتيال 
ربما تكره النفوس من الأم 
ر له فَرجة كحلِّ العِقَال 
قد تُصَاب الجبالُ في آخر الصَّفْ 
فِ وينجو مقارعُ الأبطال 

 

قال: فقال له أبي: ما الخبر؟ فقال: مات الحجَّاج، قال أبو عمرو: فأنا بقوله: فَرجة، يعني بفتح الفاء، أشد سروراً مني بموت الحجاج، لأني كنتُ أطلب شاهدًا لاختياري القراءة في سورة البقرة: ﴿ إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غَرْفَةً بِيَدِهِ ﴾ [البقرة: 249]، فقال أبي: هذا - والله - الرغبة في العلم، اضرب ركابنا إلى البصرة.

 

 وفاته


لما حضرتِ الوفاةُ أبا عمرو كان يغشى عليه ويفيق، فأفاق من غشية له، فإذا ابنُه بشرُ يبكي، فقال: "ما يبكيك وقد أتت عليَّ أربع وثمانون سنة"، وقد ذكر غيرُ واحد أنَّ وفاته كانت سنة (154هـ)، قال الأصمعي: عاش أبو عمرو ستًا وثمانين سنة.

 

وفي يوم وفاته جاء الناس يعزُّون أولادَه، فقال يونس بن حبيب: نعزيكم وأنفسنا بمن لا نرى شبهًا له آخر الزمان، والله لو قُسِمَ علمُ أبي عمرو وزهدُهُ على مائة إنسان لكانوا كلُّهم علماءَ زهاداً، والله لو رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم لَسَرَّه ما هو عليه.




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رواية خلف عن حمزة

رواية حفص عن عاصم

رواية قنبل عن ابن كثير